الصيف الأخير، الرحلة الأخيرة، الوداع الأخير، الابتسامة الأخيرة، والصورة الأخيرة، وفجأة النفس الأخير، والأشواق التي ليس لها نهاية بعدك”، هكذا أحيت والدة مهسا أميني ذكرى وفاة ابنتها التي هزت إيران خلال العام الأخير، وأدت إلى احتجاجات كبيرة مناهضة للنظام، استمرت عدة أشهر تحت شعار “المرأة، الحياة، الحرية”، وأسفرت إلى تغييرات كبيرة في إيران أبرزها معارضة الحجاب بشكل علني من قبل النساء الإيرانيات.
لم تعلن السلطات الإيرانية رسمياً أرقام ضحايا ومعتقلي هذه الاحتجاجات، لكن وفقاً لجماعات لحقوق الإنسان قٌتل أكثر من 500 شخص، كما أصيب المئات واعتقل الآلاف، وأعدم أيضاً عدد من المشاركين فيها.
16 أيلول/سبتمبر 2022، يوم يشكّل ذكرى مريرةً ستظل في أذهان الإيرانيين، ففيه انتشر خبر مقتل الفتاة الإيرانية “مهسا أميني” التي تنحدر من أصول كردية في مستشفى “كسرى” في طهران، بعد احتجازها في أحد مراكز شرطة الحجاب في طهران.
ردة فعل السلطات الإيرانية عشية ذكرى وفاة مهسا أميني
كما هو معتاد، خططت السلطات الإيرانية لإقامة مراسم إحياء ذكرى وفاة الإمام الثامن لدى شيعة إيران الذي يصادف الذكرى الأولى لوفاة مهسا أميني، ولحشد أنصار النظام والمتشددين حول ضرورة تطبيق قوانينه مثل ارتداء الحجاب القسري للنساء، بينما استنفرت قوات الأمن ومكافحة الشغب وغيرها بكل ما تملك من قوة، للحيلولة دون تنظيم احتجاجات “المرأة، الحرية، الحياة”، أو كبحها في حال اندلاعها.
لم تعلن السلطات الإيرانية رسمياً أرقام ضحايا ومعتقلي هذه الاحتجاجات، لكن وفقاً لجماعات لحقوق الإنسان قٌتل أكثر من 500 شخص، كما أصيب المئات واعتقل الآلاف، وأعدم أيضاً عدد من المشاركين فيها
وسبقت الذكرى الأولى لوفاة مهسا واندلاع الاححتجاجات، حملة إعلامية كبيرة على قنوات المعارضة الإيرانية ودعوات ونشاط شعبي واسع في شبكات التواصل الاجتماعي قابلتها استعدادات أمنية مكثفة لمنع اندلاع احتجاجات جديدة، حيث انتشرت قوات الأمن والشرطة في ساحات رئيسية في العاصمة طهران وبعض المدن الأخرى، وتم اعتقال عدة ناشطين.
كما أعلنت وزارة الأمن الإيرانية وجهاز استخبارات الحرس الثوري، في الأيام التي سبقت الذكرى الأولى للاحتجاجات، في بيانات عن تفكيك خلايا وعن اعتقالات في بعض المدن في البلاد بتهمة السعي لـ”إثارة الشغب”، وفقاً لوصفها. كما قالت وزارة الأمن الإيرانية “لديها سيطرة أمنية جيدة هذا العام رغم تمهيدات العدو”. هذا ومنعت السلطات الأمنية اقامة مراسم ذكرى وفاة مهسا، إلى جانب مرقدها، واعتقلت والدها لعدة ساعات، بعد تحذيره من اقامة الذكرى السنوية لوفاة ابنته.
خلال الفترة الأخيرة، وحتى اليوم، اتخذت السلطات الأمنية الإيرانية العديد من الخطوات بهدف إظهار يدٍ من حديد ضد كل من يريد النزول إلى شوارع البلاد، حيث توزعت تلك الخطوات إلى أساليب متنوعة منها: إرسال رسائل تحذيرية بعدم المشاركة في الاحتجاجات للمحتجين/ات الذين/اللواتي قُبض عليهم/نّ خلال أحداث العام الماضي، كذلك تنفيذ اعتقالات بالجملة بحق الناشطين السياسيين وأهالي بعض ضحايا الاحتجاجات، وإغلاق المقاهي والمطاعم وسط طهران والأماكن التي شهدت أكثر التجمعات في خضم احتجاجات العام المنصرم، وتشديد الإجراءات الأمنية باستقرار قوات مكافحة الشغب في شوارع البلاد وعلى الأخص في مسقط رأس “مهسا أميني” محافظة كُردستان غرب إيران، وغيرها من الخطوات الأمنية الأخرى.
اتهمت إيران دول عديدة على رأسها الولايات المتحدة بالوقوف وراء الاحتجاجات، وقبيل ذكرى الاحتجاجات قال المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، إن “معلوماتنا الاستخبارية تؤكد إن الإدارة الأميركية أسست مجموعة الأزمة بهدف خلق أزمات في إيران من خلال الخلافات القومية والمذهبية وقضية المرأة”.
عقوبات دولية عشية ذكرى مهسا أميني
عشية الذكرى السنوية الأولى لوفاة مسها أميني، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن في بيان “بينما نستذكر اليوم وفاة مهسا المأسوية، نشدّد على التزامنا حيال الشعب الإيراني الشجاع الذي يكمل مهمّتها”. وأضاف “سيقرّر الإيرانيون وحدهم مصير بلادهم، لكنّ الولايات المتحدة ما زالت ملتزمة الوقوف إلى جانبهم بما في ذلك عبر توفير الأدوات اللازمة لدعم قدرتهم على الدفاع عن مستقبلهم”.
وفرضت على إيران عقوبات جديدة، حيث أعلنت وزارة الخزانة الأميركية أنها أدرجت 25 مسؤولاً إيرانياً وثلاث منصات إعلامية وشركة أبحاث على قائمتها السوداء للعقوبات، مشيرة إلى ارتباط جميعهم بقمع الاحتجاجات بعد وفاة مهسا أميني.
وأعلنت الحكومة البريطانية أنّها فرضت عقوبات على عدد من المسؤولين الإيرانيين من بينهم وزير الثقافة محمد مهدي إسماعيلي ونائبه محمد هاشمي، ورئيس بلدية طهران علي رضا زاكاني والمتحدث باسم الشرطة الإيرانية سعيد منتظر المهدي.
وقال وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي إنّ “العقوبات الجديدة تبعث برسالة واضحة مفادها أننا وشركاءنا سنواصل الوقوف إلى جانب النساء الإيرانيات وفضح القمع الذي تمارسه إيران على شعبها”.
في هذا السياق، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على مسؤولين إيرانيين في الحرس الثوري والشرطة والسجون بسبب دورهم في قمع الاحتجاجات.
خريف عام 2022 في إيران
بدأت القصة بعد انتشار خبر مقتل الشابة “مهسا أميني” الذي هزّ الشارع الإيراني، وأثار غضباً عارماً لدى عموم الشعب، إذ توفيت مهسا وهي في ريعان شبابها (22 عاماً)، وذلك بعد إلقاء القبض عليها في أحد شوارع طهران بسبب حجابها.
ونقلت في تلك الفترة وسائل الإعلام المحلية، أنه في يوم 13 أيلول/ سبتمبر 2022، ألقت دوريات شرطة الحجاب القبضَ على مهسا التي كانت تتمشى برفقة شقيقها في شوارع العاصمة طهران، وأُخذت إلى أحد مراكز الشرطة، لتوقيع تعهد كما هو معتاد عند إلقاء القبض على أي امرأة حجابها لا يتوافق مع الحجاب المتعارف عند شريحة التيار المحافظ في البلاد.
وكانت مهسا قد قدِمت من مدينة سَقّز الواقعة في محافظة كُردستان، في غرب إيران، إلى طهران برفقة عائلتها، لكن شرطة الحجاب التي شددت حملاتها مع بداية حكومة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، ضد النساء اللواتي يطلق عليهن “سيئات الحجاب”، اعتقلتها وأخذتها إلى مركز شرطة الآداب.
بعد فترة قصيرة من دخولها إلى المركز، جاءت سيارة إسعاف لتنقلها إلى المستشفى، وفي نهاية المطاف خرج أحد الضباط ليخبر أسرة مهسا أميني التي أتت لمتابعة شؤونها، بأنه عليهم أن يذهبوا إلى المستشفى، لمتابعة حالة ابنتهم الحرجة.
بقيت مهسا ثلاثة أيام في قسم العناية المركزة في المستشفى بسبب غيبوبة دماغية جرّاء تلقّيها ضربات على رأسها، وباءت كل محاولات الأطباء لإنقاذها بالفشل، وقد توفيت تلك الفتاة التي تقول أسرتها إنها كانت تحب الطب والرسم والفن والرقص، في 16 أيلول/سبتمبر عام 2022.
بعد انتشار هذا الخبر المحزن أصدرت الشرطة بياناً تنفي فيه أيّ اعتداء عليها، مؤكدةً أن الضحية كانت في أحد المخافر لتلقّي إرشادات بشأن الحجاب الإلزامي ومن ثم أغمي عليها وهي وسط الصالة بين سائر المحتجزات.
الاحتجاجات الإيرانية من البداية وحتى اليوم
أثار البيان هذا غضب الشارع الإيراني، الذي تساءل حول كيفية تنظيم هذه الجلسات الإرشادية التي تتسبب في مقتل الفتيات؟ كما حذر مسبقاً الكثير من خبراء علم الاجتماع وعلم النفس، من تداعيات هذه الجلسات ومعاملة دوريات شرطة الحجاب التي لا تراعي كرامة الفتيات عبر ممارسات أعمال كضربهنّ وشتمهنّ والإساءة إليهن في الشوارع.
بعد ذلك اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي، تنديداً بفعلة شرطة الحجاب هذه، ضمن حملة تضامنية للنساء تحت عنوان #مهسا_أميني، ولاقت هذه المنشورات صدى واسعاً بين عموم الشعب والمشاهير في إيران وجميع أنحاء العالم، ليتصدر الهاشتاغ جميع منصات التواصل في العالم.
كما أنتج الفنانون الإيرانيون أغاني ومقاطع فيديو وأنيميشن دعماً لهذه القضية، ومن أهم هذه الإنتاجات أغانٍ، مثل: “لأجل” (بَرايِ) للرابر شروين حاجي بور، التي انتشرت بشكل واسع في العالم وتسببت في اعتقاله، وأيضاً سلسلة أغاني للمطرب مهدي يراحي منذ بداية الاحتجاجات وحتى أغنية “اخلعي الحجاب” التي أنتجها مؤخراً واعتُقل بسببها.
وبهذا قام كل من تضامن مع الحملة، بإصدار بيانات في مواقع التواصل الاجتماعي، يدعو فيها إلى تنظيم تجمعات احتجاجية في شتى أرجاء البلاد، لتردّ السلطات بالتضييق على الحريات عبر خطوات مثل قطع الإنترنت، بهدف إخماد فتيل الاحتجاجات التي كانت تتسع كل لحظة.
لكن قطع الإنترنت هذا، لم يخدم الحكومة والسلطات الأمنية، بل تسبب في تأزيم الوضع في البلاد وخروج الشباب والشابات إلى الشوارع للتجمع والاحتجاج ضد قانون الحجاب الإجباري في الدستور، حيث بدأت التحركات تأخذ وتيرةً تصاعديةً، حتى أصبحت عفويةً وعامةً في جميع المدن الكبرى في إيران، تحت عنوان “المرأة، الحرية، الحياة”.
صدى هذه الاحتجاجات، كان لافتاً للنظر إذ تضامن الكثير من النجوم والمشاهير العالميين في جميع الدول مع المحتجين/ ات، بالإضافة إلى تضامن الشعوب مع الشعب الإيراني المحتج، كما توسعت تجمعات الجاليات الإيرانية في “150” دولةً حول العالم، إذ جابت الملايين الشوارع والساحات العامة دعماً للحركة الاحتجاجية هذه.
بعد مرور عام على تلك الأحداث، لا يزال النظام والحكومة في إيران يواجهان مخاوف من عودة احتجاجات “المرأة، الحياة، الحرية”، أو مظاهرات أخرى نظراً إلى الأجواء المشحونة التي لم تفارق الشارع منذ إخمادها
وكانت مظاهرات “المرأة، الحياة، الحرية” في إيران، تأخذ منحى حاداً في أغلب المدن، وعلا صوت الهتافات، وانتشرت كتابة الشعارات المناهضة و”الغرافيت”، التي طالت جميع المسؤولين الإيرانيين حتى المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، وبهذا تحولت الاحتجاجات إلى حركة ثورية تطالب بتقويض نظام الحكم ولم تقتصر على دعم المرأة وقضية الحجاب فحسب.
خلال المظاهرات، سقط المئات من الشباب والشابات في أثناء مواجهتهم/نّ قوات النظام، التي كانت تقمع المحتجين/ات بأشد الأساليب وبكل ما لديها من قدرات، وقد تخطى الأمر مرحلة خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، إذ راحت القوات الأمنية ومعها قوات الباسيج، تطلق الرصاص الحي على كل من كان في الاحتجاجات، دون الاكتراث لاحتمال مقتل المتظاهرين، وبالطبع نفت السلطات حصول مثل هذه الممارسات.
من جهة أخرى، كانت السلطات الأمنية الإيرانية تعتقل كل الداعمين للقضية من المشاهير والناشطين السياسيين والاجتماعيين، فكان قمع الحريات السمة الأبرز في البلد، ويطال كل من يتضامن مع القضية بشكل أو بآخر، ودام الوضع على هذا الحال لبضعة أشهر، حتى تراجع مستوى التوتر في الشارع ومن ثم استطاعت القوات بسط سيطرتها على الاحتجاجات.
الآن، وبعد مرور عام على تلك الأحداث، لا يزال النظام والحكومة في إيران يواجهان مخاوف من عودة احتجاجات “المرأة، الحياة، الحرية”، أو مظاهرات أخرى نظراً إلى الأجواء المشحونة التي لم تفارق الشارع منذ إخمادها، ومن هذا المنطلق تعمل الحكومة على منع تكرار حدوث هذا الأمر، من خلال حملات اعتقالات وإغلاق المحال وأعمال تحذيرية وتخويفية أخرى.
ولطالما كان إرعاب المخالفين/ات بشتى الطرق، وسيلة النظام الإسلامي في إيران، وهي تنجح لغاية الآن، لكن هل هذه الأساليب قادرة على أن تحمي الإسلاميين في هذا البلد من البقاء في سدة الحكم، دون الاكتراث لمطالب المواطنين/ات المحتجين/ات؟
المصدر:رصيف22