يرى كثير من المنظرين والباحثين المعاصرين أنه «لا الأديان ولا الفلسفات لعبت الدور الرئيس في انتقال التسامح من حيز النظرية إلى الممارسة الجمعية، وإنما الدول هي التي شكلت الحاضنة الرئيس في هذا الانتقال»، ويذهب البعض إلى أن «الفكر العربي حتى اللحظة الراهنة»، ما زال بحاجة للمزيد من النظر في موضوع التسامح والتعايش المشترك برؤى مغايرة.
إضافة إلى أن معالجة موضوع «المشتركات الإنسانية» تتطلب مقاربات متنوعة وجديدة تسعى لوضع منظومة قيمية جديدة بالمعنيين الأخلاقي والديني، على أن تستجيب تلك المنظومة لحاجات الجيل الجديد الذي بات يعيش غربة مع الخطاب الثقافي السائد، وذلك في وقت تتعاظم فيه الحاجة يوما بعد يوم إلى ترسيخ مبدأ التعايش المشترك، ونشر ثقافة التسامح بين أتباع الديانات والثقافات المختلفة.
ولعل هذا ما تعرض له بالنقاش والتحليل الكاتب والباحث محمد وردي في كتابه الذي حمل عنوان «من أين تدخل إلى التّسامح»، حيث اشتمل الكتاب على استعراض للجذور المتينة والعميقة للتّسامح في الثقافة العربية والإسلامية، وبيّن ما للتّسامح من حضور في الثقافة العربية قديماً.
ومن المهم في هذا السياق، أن نؤكد على أهمية مراعاة الفارق بين التّسامح والتعايش المشترك من ناحية، و»المساكنة» من ناحية أخرى، وذلك لأن المساكنة في بعض وجوهها قد تحيلنا إلى أشكال قسرية أو قهرية، لا خيار فيها؛ كونها قائمة بحكم الأمر الواقع، أو حسب مقتضى الحال، وأنها سوف تتبدل وتتغير مع تقلب الأحوال، وهنا تكمن مخاطر الترويج لما يُمكن أن نسميه بـ»ثقافة المساكنة».
وأن يكون بديلنا في ذلك فتح الباب واسعاً أمام مزيد من الحوار والحوار البناء وتلاقح الأفكار، وتقديم خطاب يرتكز على مرجعيات جمالية وأخلاقية وإنسانية تعزز روح التسامح.
كذلك لا بد من العمل على تعظيم تلك الأفكار التي أسس لها البحوث والمؤتمرات العديدة والمتواصلة والتي تستهدف طرح رؤىً جديدة في مسألة التسامح والتعايش المشترك بين مختلف الأديان والثقافات.
وقد أثمرت جهود المؤسسات والمراكز البحثية التي أقامتها بعض الدول وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، والعديد من الدول الأخرى، في فتح باب جديد وعصري يحاكي الواقع بنقاشات سلمية، ومقاربات فكرية تؤسس لمبدأ التسامح والتعايش المشترك بين الأديان والثقافات.
من هنا عادت مصطلحات مفقودة إلى الرادار من جديد في فضاء الإعلام «التعايش والتعددية والاختلاف»، لاهتمام المفكرين والكتّاب، والإعلام في هذه المصطلحات الرنانة، وذلك لتعلقها بحياة الناس وتعاملاتهم في شتى جوانب الحياة الاجتماعية أو السياسة أو الاقتصادية.
ومن خلال ذلك قدمت لنا تلك المراكز والمؤسسات البحثية المعنية بدراسات التسامح والتعايش المشترك، بحوثاً ثرية درست بعناية لآليات التعايش بين الأمم والشعوب على مختلف عقائدها وثقافاتها، ولعل الثقافة من الركائز المهمة التي يجب أن نرتكز عليها عند التأسيس لمبدأ التعايش المشترك، بحكم أن الثقافة هي روح كل أمة، وعنوان هويتها، وأحد مقومات نهضتها.
كما نعلم فإن لكل أمة ثقافة تستمد منها عناصرها ومقوماتها وخصائصها، وتصطبغ بصبغتها فتنسب إليها، وقد عرف التاريخ الإنساني العديد من الثقافات كالثقافة العربية الإسلامية، والثقافة اليونانية والثقافة الرومانية والثقافة الهندية، ومن هنا تدلنا الدراسات المعنية بمسألة التسامح والتعايش المشترك، على أن الثقافة الإسلامية قدمت لنا أروع الأمثلة في التعايش مع الآخر، وهي أمثلة ونماذج توكد وحدة الأصل الإنساني، مع الإقرار بمبدأ الاختلاف، فالله تعالى خلقنا وجعلنا شعوباً وقبائل لنتعارف ونتعايش وفق قيم تحترم الإنسان، وبموجب ضوابط تكفل لكل فرد حقه في العيش بسلام واستقرار.
عالمنا المعاصر بات اليوم أكثر احتياجا للنظر في تلك القيم والضوابط والأمثال والنماذج التي نجدها في الثقافة الإسلامية، وتدارس القيم والضوابط والأخذ بها وفق رؤية معاصرة تراعي جوهر الاختلاف وتؤسس ثقافة تقبل التعايش والحوار الإنساني بين الأديان والثقافات.
ففي المصادر العربية الكثير من الأمثلة التي قدمها الإسلام ورسوله الكريم محمد – صلى الله عليه وسلم -، وصحابته والتابعين رضوان الله عليهم، لتكون أنموذجاً يؤسس لمبدأ التسامح والتعايش المشترك بين أتباع الأديان والثقافات.
وتزخر المؤلفات العربية بالكثير من المواقف والقصص التي تدل على الرقي الأخلاقي والسمو الأدبي والرحمة والشفقة في تعامل النبي – صلى الله عليه وسلم – مع غير المسلمين، ليس مع المسالمين فحسب بل حتى مع المحاربين وغيرهم، فكان – صلى الله عليه وسلم – يحرص على عيادة المريض وإجابة الدعوة والتعزية، وهناك الكثير من الشواهد الإسلامية التي تؤكد على ضرورة حسن الخلق في التعامل مع الآخر، وحسن المعاملة معهم، والشفقة والرحمة واللين وحسن الكلام، وقد قال الله سبحانه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».
وكذلك قول الله تعالى: «وقولوا للناس حسنى»، وفي الآيتين الكريمتين، مخاطبة للعالم، وليس للمسلمين فقط، فقد أرسل الله بينا محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعاملين، ثم انظر لتوجيه الله سبحانه: «وقولوا للناس حسنى»، وفي السيرة النبوية نجد قصص الوفود المتعددة، الواردة على المدينة المنورة من الشواهد التاريخية الثابتة، التي تحمل لنا دروسا وأسرارا في التسامح، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبلهم، ويكرمهم ويحاورهم.
هذه الوقائع من أهم المصادر الثرية لإرساء التسامح الديني في الإسلام، وفي وقائع الوفود أيضًا نجد قصة وفد دوس التي دلت على رفـق النبي صلى الله عليه وسلم بالخلق، وما يحمله للناس كافة من الرحمة والخير والهداية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قَدِمَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَقِيلَ: هَلَكَتْ دَوْسٌ، قال: (اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا).
وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولدت وثيقة تعد توءماً لوثيقة المدينة المنورة لتبرهن على المنهج الفريد للتعايش مع غير المسلمين، وهي الوثيقة المشهورة بالعهدة العمرية، والتي أعطت اليهود والنصارى الأمان، ولذلك نجد أيضاً في عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه من العصور التي أسست فيها نماذج متواترة في ترسيخ التسامح وحفظ الحقوق، واحترام الآخر وإقامة العدل بينهم وبين المسلمين.
ختام هذا المقال الذي أود ألا أتوقف بذكر أفضل معاني القيم الإنسانية في الثقافة العربية الإسلامية، أؤكد أننا بحاجة ماسة لبذل المزيد من الجهد التثقيفي والتنويري من خلال أطروحاتنا التشاركية على كافة المستويات من أجل نشر ثقافة التسامح وقبول الآخر، والتعايش المشترك، وهنا لا يسعني إلا أن أشكر مركز الملك عبدالله العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات (كايسيد)، على أهمية الدور الذي يقوم به والجهود التي وصل صداها شرقا وغربا، والسعي الدائم من قبل القائمين عليه والعاملين به من أجل تحقيق رؤية المركز الإنسانية التي تتجسّد في الإسهام في شتى الجهود الرامية لنشر التفاهم والتعاون والاحترام المتبادل بين الناس كافة.
المصدر/ جريدة الرياض