كنت حينها فتاة في الرابعة عشرة، عندما قرر والدي أن نسافر لقضاء العيد في القرية، سُررنا بتلك الرحلة، لكن ما إن وصلنا القرية، حتى كادت جدتي تنفجر غاضبة من ابن عمي الصغير لإنه كسر مرآتها المفضلة، وهي مرآة دائرية محفورة وسط الجدار كما في معظم المنازل القديمة في القرية.
اقتربت من المرآة اتأملُ انعكاس وجهي وقد بدا مضحكا جدا في الشقوق التي خلفها الكسر الضخم واتصنعُ حركات عجيبة بملامح وجهي، شتتت جدتي تأملاتي الضاحكة وهي تقول “لم يحدث أي خدش في هذه المرآة منذ أن اشترى والدك المنزل من جارنا سعيد اليهودي، وها هي اليوم كما ترى!”
التفتُ من فوري نحو جدتي وأنا اسألها: هل قلتِ جارنا سعيد اليهودي؟
قالت نعم.. ثم عادت تنظر إلى أبي وتتابع شكواها مما حدث، لكني وبدافع الفضول قاطعتها لأسألها مجددا: جدتي هل تقصدين أنه كان هنا في قريتنا يهود!
مخيلتي الصغيرة في ذلك الوقت لم تكن تحظى بمعلومات وفيرة عن اليهود ومجمل ما كنت أعرفه هو انهم يتواجدون في أماكن محددة في صنعاء ومحاطون بجو خاص بهم، حيز من العزلة والنسيان.
أعارتني جدتي اهتماما أكثر هذه المرة، لمحت الحماسة تتقد في عينّي لمعرفة ما ستقوله، لذا أجابت بتفصيل أكثر: “نعم ابنتي كان هنا في القرية عدد من اليهود يعيشون بيننا في أماكن متفرقة من القرية، واظنهم كانوا متواجدين ايضاً في القرى المجاورة”.
وكيف كانت علاقتكم بهم؟ بدون أي تفكير طرحت هذا السؤال.
كما هي علاقة الجار بجاره.. نتشارك الأرض ونتقاسم الماء والقمح. أجابت جدتي.
لم اكن أتصور قط أن قرى مدينة رداع ومن بينها قريتي كانت حاضنة لليهود، مسقطا لرأسهم ومرتعا لشبابهم، فصرتُ أطرح أسئلة كثيرة وغبية أيضاً.. حتى أن جدتي انفجرت ضاحكه وهي تجيبني “كانوا يرتدون نفس ملابسنا ويتحدثون مثلنا”، ساد صمت للحظة قبل ان تتابع بملامح جدية، “كانوا يسعون في طلب رزقهم بجهد حثيث وكنا نشتري منهم ونبيع لهم.. يجيدون العديد من الحرف”.
وارتسمت على محياها ابتسامة عريضة وهي تقول “وكانت صفية سالم خياطة ماهرة تخيط ملابس نساء القرية، وكانت تنام أينما يباغتها النعاس، تارة ونحن في منزلها او عندما تكون مجتمعة مع النساء في عزاء او عرس او اي مناسبة ويعلو صوت شخيرها في سلام وحبور.. حتى صارت مثلا شائعا في القرية يضرب لمن ينام وهو يجلس مع الناس”.
استمعتُ باهتمام بالغ لما قالته جدتي ولم أعقب بشيء.. كانت الأفكار تجول في مخيلتي. أدركت جدتي أنها أوقعتني في حيرة من الأمر، وكأنها كانت تقرأ أفكاري، فبادرت من تلقاء نفسها توضح لي بعض الأمور “يا ابنتي لم نكن نأبه لأمر الاديان في ذلك الوقت، ولم يكن مهماً إن كان الذي امامنا مسلم او ما دون ذلك، ولا نتذكر اننا مسلمون وهم يهود الا حين تحضرنا المناسبات الدينية”.
ثم صمتت قليلا، فشعرت انها كانت تريد أن تقول شيئا ما لكنها لم تحسن التعبير عنه، اومأت بيدها وهي تضيف “كانت الحياة سابقا مختلفة بطريقة ما عما هي عليه اليوم، كنا نتقبل بعضا البعض وأما اليوم لا أحد يفكر في الأخر بتاتا” ومضت تتذمر مما آلت اليه الأوضاع.
الحقيقة أن مبادرتها في توضيح الأمور لم تفلح إلا في زيادة حيرتي، فقد شكل حديثها عن التعايش في زمانهم نقيضا صارخا لما نعيشه الآن، لم استطع فهم التحول الكبير الذي حدث في المجتمع حتى صار الناس يشعرون بالريبة أمام من لا يدين بدينهم، فأصبحت هذه الأرض تتسع لهم وتضيق على من سواهم.
مرت السنون وماتت جدتي، وما زالت مرآتها المكسورة على حالها، وكلما نظرتُ فيها تذكرتُ أنها ايقظت في داخلي شغفا كبيرا لمعرفة كل ما يتعلق بيهود اليمن، فكنت افتش عن اخبارهم عبر شبكة الانترنت لأجدهم دائما يستحضرون اليمن طوعا في اغانيهم، احتفالاتهم واعراسهم وفي ملابسهم وزخارف منازلهم حتى غدت حياتهم بطابع يمني مثيل، لا يفوتون فرصة الا ويعبرون فيها عن حبهم وشوقهم لوطنهم الذي حملوه كما حملوا امتعتهم، فقلوبهم التي بقيت معلقة في مهد طفولتها ترفض الانسلاخ من هويتها والانخراط في هويات بعيدة عنها قادمة من مناطق مختلفة من العالم.
وبقدر ما كان يبهجني احتفائهم بوطنهم، كنتُ اشعر بالأسى الكبير عليهم، ويبقى السؤال عالقا في ذهني: لماذا يُستبعد إنسان من وطنه لمجرد انه لا يشبه الآخر في كل شيء؟ ألا يكفي أن الجميع ينتمون لأرض واحدة وهوية جامعة!