إن إقصاء النساء عن المشاركة السياسية في اليمن جريمة بحق المجتمع بأكمله. جريمة تعوق التقدّم، وتُحِدُّ من فرص التنمية، وتحرم اليمن من إمكاناتٍ هائلة”، بهية السقاف – قيادية نسوية يمنية ورئيسة مؤسسة PASS.
بالنظر إلى عدد الاتفاقات الدولية والقرارات الأممية والخاصة بحقوق النساء التي صادق عليها اليمن، والعدد الكبير من الدراسات والتقارير والمقالات التي أُنتِجَت على مدار ما يربو على ثلاثة عقود، وغيرها من الإصدارات المفصّلة التي تشرح وضع النساء اليمنيات وتناهض تعمّد تهميشهن وتحجيم أدوارهن في جميع جوانب الحياة، ما تزال الجهات الفاعلة على مسافة بعيدة من الاستجابة الفعلية لحقوق المرأة اليمنية، وتهدر الكثير من الوقت في حلقة مفرغة من نقاش البديهيات، والبحت في خيارات لا تخلق الأثر ولا تمتثل إلى روح العدالة للجنسين، ولا مستقبل منظور لنتائجها غير الاستمرار في إقصاء النساء من الحياة العامة.
هنا يأتي السؤال الأهم: ما الذي ينقص اليمن ليمنح نساءه حقوقهن؟ وما اللازم لإتمام عملية الاعتراف بإمكانات النساء وتمكينهن؟ وهل يمكن الاكتفاء بورش العمل وطاولات النقاش، أم ينبغي الدفع باتجاه تصميم خطط تنفيذية من شأنها إصدار قرارات وتدابير تمنح النساء حقهن الأصيل في التمثيل والمساهمة في إدارة المرحلة الحرجة التي يمر بها اليمن، وبالتبعية نساؤه.
تهميش برسم الحكومات
فبالنظر إلى دور الحكومات اليمنية المتعاقبة، تجاه النساء وحقهن في المساواة، وفي التمثيل السياسي العادل، على مر العقود، لا نرى سوى انحيازاً كاملاً للعقلية الذكورية، وتصالحاً مع المنطق التمييزي ضد النساء. لنفتش في جزء من هذه المنهجية، في اختيار شخصيات الدولة وصناعة القرار، منذ قيام الوحدة عام 1990 وحتى 2020، فقد عُينت 14 حكومة، بإجمالي 444 حقيبة وزارية، كان نصيب النساء منها 18 حقيبة فقط، أي بما تقارب نسبته 4.1%.
ما تزال جميع الجهات الفاعلة في اليمن على مسافة بعيدة من الاستجابة الفعلية لحقوق المرأة اليمنية، وتهدر الكثير من الوقت في حلقة مفرغة من نقاش البديهيات، والبحت في خيارات لا تخلق الأثر ولا تمتثل إلى روح العدالة للجنسين، ولا مستقبل منظور لنتائجها غير الاستمرار في إقصاء النساء من الحياة العامة. لماذا؟
تتضاعف كارثية هذا المؤشر، إذا قارناه بالتعداد السكاني الذي تمثل فيه نسبة النساء قرابة نصف المجتمع. المقلق أيضاً في هذه الإحصائيات، ليس فقط إقصاء النساء سياسياً، الذي يشكل نمطاً ونهجاً حكومياً ثابتاً، لكن النتائج المترتبة على عزل نسيج من يمثلن نصف المجتمع، عن تمثيل ذواتهن، ووطنهن.
هذا الأمر، يجعل من عملية إنعاش الحياة في اليمن، أمراً شبه عاجز، يفتقر إلى الشمول، بل ويُقصي شريحة النساء العريضة، في رغبتهن الجادة نحو تمثيلهن وطنياً لصناعة القرار.
في مراحل زمنية مختلفة، حاولت النساء تفعيل دورهن، وتجاوز التمييز ضدهن، أثمرت بعض المحاولات مخرجات في هيئات الدولة، مثل “حق الكوتا النسوية” الذي كان من أبرز مخرجات “الحوار الوطني” عام 2014. حاولت هذه المخرجات أن تضمن للنساء حقهن في وجوب تعديل الدستور اليمني، بحيث تكون نسبة مشاركة النساء تبدأ من 30%، إلا أن النزاع الذي تلا ذلك في 2015، حمل معه الكثير من الخذلان وأجهض كل المحاولات والنضالات التي من شأنها أن تساعد المرأة اليمنية في ممارسة حقوقها.
مع دخول النزاع المسلح في اليمن عامه العاشر، وتهالك البنية التحتية للبلاد وانحسار طبقات الحماية، وتضاعف كل ما من شأنه أن يقوِّض حركة النساء في الفضاء العام من قبل أطراف النزاع، تقضي النساء مرحلة أشد إقصاءً من سابقاتها.
يؤكد مؤشر الفجوة القائمة بين الجنسين أن النساء في اليمن هن الأتعس في العالم من حيث المساواة في الحقوق بين الجنسين. فعلى سبيل المثال، كان اليمن خلال خمس سنوات على التوالي (2013 – 2017) يحتل المركز الأخير في تقارير المؤشر الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي. وفي 2021، كان اليمن أيضاً في أسفل قائمة المؤشر حيث كان ترتيبه 155 من أصل 156.
وتختار الحكومة اليمنية الحالية والمُعترف بها دولياً، سياساتها تجاه النساء، بالمخالفة لمخرجات الحوار الوطني ودونما مبرر. بل تذهب إلى اختيار سياسة اللاتمثيل للنساء في معظم المناصب الحكومية وأدوات صنع القرار. لكن السؤال يبقى قائماً: إذا كان الذي يُمارس سياسة الإقصاء هي الحكومة، فما الحيلة والغريم هو القاضي؟ ثم من الذي سينفِّذ القرارات والصكوك الدولية، ويأخذ بزمام الأمور إلى حيث يجب؟ ثم ما العائق أمام فرض المساواة، والقبول بدور النساء اللاتي يمثلن ما نسبته 49.5% من المجتمع؟
العجيب في الأمر هي حالة الشيزوفرينيا التي تصدِّرها حكومات ما بعد الحوار الوطني، إذ تعمّدت إفراغ حق الكوتا من محتواه. وبالتوازي مع ذلك، تعتمد لغة مُزايِدَة ومطّاطَة تتحدث فيها عن أهمية وجود المرأة كشريكة فاعلة في التنمية الشاملة إذ أكدت الحكومة، في بيان لها أصدرته في 18 آذار/ مارس 2022، أن “المرأة شريك فاعل في التنمية الشاملة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفقاً لنصوص الدستور والقوانين اليمنية والاتفاقيات والمعاهدات الدولية رغم ظروف الحرب”. هذا الإعلان أدعى أن تراجع الحكومة سلوكياتها، بدلاً من المواعظ التي لا تُغني من جوع.
المجتمع المدني مدان أيضاً
وفي الإطار نفسه، تأتي مساهمات المجتمع الدولي ووكالات ومكاتب الأمم المتحدة على نسق غير بعيد عما تقوم به السلطات في اليمن حيث تمت العديد من المفاوضات والمباحثات منذ بداية النزاع في اليمن حول وقف إطلاق النار وعملية بناء السلام، ولم تتم دعوة النساء للمشاركة في عدد منها، بل كان الحضور مقتصراً في أحيان كثيرة على الذكور.
“إقصاء النساء عن المشاركة السياسية في اليمن جريمة بحق المجتمع بأكمله. جريمة تعوق التقدّم، وتُحِدُّ من فرص التنمية، وتحرم اليمن من إمكاناتٍ هائلة… يُحرم اليمن من طاقة هائلة، من إبداع لا يُحصى، من عقولٍ واعيةٍ وقادرة على إحداث تغييرٍ إيجابيّ. فكيف يمكن لدولةٍ أن تُزدهر بينما نصف شعبها مُهمّشٌ ومُقصى؟”، بهية السقاف – قيادية نسوية يمنية ورئيسة مؤسسة PASS
في نقاشات أخرى، كانت نسبة مشاركة النساء ضئيلة جداً حيث كان التمثيل الأفضل للنساء في مجمل كل هذه المفاوضات الرسمية، هو تمثيلهن في مفاوضات السلام التي تمت في الكويت عام 2016 إذ مثّلن في جميع المحادثات آنذاك 12% من المشاركين.
المؤسف هنا هو أن الترتيب لمثل هذه اللقاءات والمفاوضات هو ترتيب ليس ببسيط ويمتاز بتنوع معايير التمثيل من مختلف الأطراف. فكيف لم يكن التمثيل الجندري معياراً في هذه المباحثات؟ وكيف لقائمة الحضور الذكورية مراراً ألّا تستفز أي من الأطراف أو الوسطاء أو ممثلي الدول أو البعثات أو حتى مكتب المبعوث الأممي الخاص لليمن، وهو سجل قاتم لا يشبه التدخلات التي تعلنها وكالات الأمم المتحدة والبعثات الدولية؟
بين فترة وأخرى، يعلن مكتب المبعوث عن لقاءات جانبية والتي في الغالب تكون مصمّمة للنساء ولسماع رؤاهن في عملية بناء السلام. وهي بادرة هامة وجيدة ولكن يُصعب فهمها بشكل إيجابي مطلق. أولاً، لأنها تتم بمعزل عن المفاوضات الرسمية، وثانياً، لأنه بطبيعة الحال لضمان جودة اللقاءات وفاعلياتها يتوجَّب إشراك جميع الأطراف التي تستطيع صناعة مثل هذه القرارات، ومن ضمنها بالتأكيد الرجال – ممثلو السلطة.
إلى ذلك، فإن إشراك النساء والرجال معاً في جميع الرؤى المستقبلية لليمن يعد الشكل الأمثل للمضي نحو خريطة سلام متكاملة، وقد تكررت الكثير من الفعاليات والورش التي تقوم فيها منظمات المجتمع المدني بدعوة النساء لمناقشة حقوقهن في معزل تام عن الشريك الأهم في هذه المعادلة، وهو الرجل.
أيضاً، ليس من السهل ضمان أن هذا النهج سيولِّد نتائج جيدة خاصة وأنه يشبه نهج عزل النساء عندما يكون صانع القرار هو رجل. ربما من المهم هنا إعادة التفكير في كيفية التعامل مع استعداد الرجال المساهمة في مناصرة حقوق النساء وإضافة عنصر يصف هذه الحالة بأنها تحدٍ جديد يُضاف إلى عاتق عملية المساواة بين الجنسين.
“يُحرم اليمن من طاقة هائلة، من إبداع لا يُحصى، من عقولٍ واعيةٍ وقادرة على إحداث تغييرٍ إيجابيّ. فكيف يمكن لدولةٍ أن تُزدهر بينما نصف شعبها مُهمّشٌ ومُقصى؟”، بهية السقاف.
وعليه، فإن الاهتمام بحقوق النساء تارةً وإغفالها تارةً أخرى، والتعامل معهن كشريك فاعل ولكن بشكل مؤقت أو متقطع، هو سلوك شائن، بل مرفوض قطعاً، لأنه مبني على خذلان النساء وعدم احترام حقهن الأصيل في الوجود والمشاركة في الحياة العامة، ومن شأنه أن يخلق المزيد من الانتهاكات القائمة على النوع الاجتماعي في اليمن. والأكيد أنه لن يساهم أبداً في التخطيط لعملية سلام شاملة إلا إذا كانت أيضاً عملية خاذلة لليمنيات.
كما أن إقرار وجوب التمثيل الجندري في صناعة القرارات في اليمن يجب أن يبقى واقعاً، وبمنأى عن المزايدات. هذا التحدي يفرض أيضاً على المجتمع الدولي والسلطات اليمنية التحلي بالمصداقية والشجاعة لتمكين النساء ومنحهن حقوقهن وفرض سياسات وإجراءات تساهم في تسهيل وصول النساء إلى مراكز صناعة القرار وتصميم آليات حماية هذه الأدوار. علماً أن رفض إقصاء النساء لم يكن مطلباً وليد اللحظة.
وختاماً، لم يكن اليمن في أي حقبة زمنية، صديقاً لحقوق النساء بصورتها الكاملة. أما وبعد أن أصبح عمر النزاع في اليمن ما يقارب الـ10 أعوام، وتضافرت جهود التقاليد والعادات البالية، أصبحت النساء تعاني أكثر من أجل العيش بكرامة.
في يوم المرأة العالمي، لا تبحث النساء اليمنيات عن تهانٍ وتبريكات في منصات التواصل الاجتماعي، ولا عن تذكير بأنه في يوم من الأيام حكمت اليمن امرأة جسورة وشجاعة، بل ينتظرن أن يرين دولة جسورة تعترف بهن ضمن مخطط تنفيذي محدد الزمن والهدف يصب في إعطاء مراكز حقيقة لقيادات نسائية بشكل عاجل وفق سياسات ولوائح تحمي النساء وحقوقهن
وهناك إشارة خجولة في الدستور اليمني إلى حقوق النساء. كما أن اليمن إحدى الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وصادق، في عام 1994، على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص مادته الأولى على أنه “يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق”، بل وصادق البلد على العديد من الصكوك الدولية التي تناهض التمييز القائم على النوع الاجتماعي. مع ذلك، ما يزال هناك تصنيف ممنهج وغير إنساني للنساء بأنهن مواطنات من الدرجة الثانية، وأنهن بطبيعية الحال يمثلن الفرع أو التابع ولسن كياناً مستقلاً تماماً، ما يزيد العبء على الحكومات، ويحملها مسؤوليات أكبر في دفع هذا الضرر.
وفي يوم المرأة العالمي، الذي يصادف 8 آذار/ مارس من كل عام، لا تبحث النساء اليمنيات عن تهاني وتبريكات في منصات التواصل الاجتماعي، ولا عن تذكير بأنه في يوم من الأيام حكمت اليمن امرأة جسورة وشجاعة، بل ينتظرن أن يرين دولة جسورة تعترف بهن ضمن مخطط تنفيذي محدد الزمن والهدف يصب في إعطاء مراكز حقيقة لقيادات نسائية بشكل عاجل وفق سياسات ولوائح تحمي النساء وحقوقهن.
في 16 شباط/ فبراير 2024، وعلى سبيل المثال، شاركت شبكة التضامن النسوي مقترحاً مع المجلس القيادي الرئاسي (الحكومة المعترف بها دولياً) تطلب منه مراجعة القرارات السابقة التي تم فيها إقصاء النساء في تشكيل حكومة 2020، وتطلب كذلك الاستفادة من وجود تغيرات سياسية حالية في الهيكل الحكومي لاستيعاب كفاءات نسائية تساهم في صناعة القرار. وقد بادرت الشبكة بوضع بعض الأفكار التفصيلية في المقترح. بالطبع تستطيع الحكومة المعترف بها دولياً عمل مثل هذه المقترحات واعتمادها، وأيضاً تستطيع الالتفات للمقترحات المقدمة من المجتمع المدني. لكن ما لم يعد ضمن الاستطاعة رؤية الحكومة تنتهك حق النساء مجدداً في تشكيل الحكومة الجديدة. وعلى الحكومة الاستجابة لهذا الطلب وعدم التنصل من التزاماتها بالقوانين والمعاهدات الدولية ومخرجات الحوار الوطني. و هو أمر يجب أن يسري على بقية الأطراف والفاعلين أيضاً.
المصدر: رصيف22